صلاح عيسي |
صلاح عيسي يكتب في اليوم السابع: الليلة.. والبارحة
فى عام 1972، كنت أعمل بجريدة «الجمهورية» القاهرية، واقترحت على رئيس
تحريرها المرحوم «مصطفى بهجت بدوى» أن أكتب دراسة مسلسلة عن حياة الزعيم
«مصطفى النحاس باشا»، فتحمس للفكرة من وجهة نظر صحفية ترى أن موضوعا من هذا
النوع هو «ضربة صحفية» يمكن أن تسهم فى رفع توزيع «الجمهورية» التى كانت
تحتل المرتبة الثالثة فى توزيع الصحف اليومية الثلاث التى لم يكن يصدر
غيرها فى مصر آنذاك.
وكان قد مرّ عشرون عاماً على ثورة 23 يوليو 1952، فرضت أجهزة الإعلام خلالها تعتيماً شاملاً على اسم وصورة وتاريخ «مصطفى النحاس»، إلى درجة أن الرقابة على الصحف، كانت تشطب اسمه أينما ورد فى أى مقال أو خبر، حتى لو كان فى مجال التنديد به، وهو ما كان يعنى فى تقديرى أن أى رئيس تحرير ينشر أى سلسلة من الموضوعات الصحفية عنه، سوف يضيف إلى قراء «الجمهورية» آلافا من الجيل الذى عاصر الرجل، وناضل تحت قيادته للحركة الوطنية، فضلاً على الجيل الذى كان فى طفولته، عندما تقرر شطب اسمه وصورته من التاريخ.
وكانت وجهة نظرى - التى شاركنى فيها مصطفى بهجت بدوى - هى أن الأوان قد آن لتقييم موضوعى للرجل، الذى كان أحد أقطاب ثورة 1919، والذى قاد نضال الشعب المصرى، خلال 25 عاماً - بين 1927و1952 - دفاعاً عن الاستقلال والديمقرطية.
دفعت إلى «مصطفى بهجت» بالفصول الأولى من الدراسة لكنه اعترض على اقتراحى البدء بنشر حملة دعاية لها، قائلاً إنه لابد وأن يستشير فى الأمر وزير الإعلام «د.محمد عبدالقادر حاتم»، ولأن المسألة تتعلق بسياسة إعلامية ثابتة تواصلت لسنوات، لابد من جس نبض «أصحاب الشأن» قبل مفاجأتهم بالخروج عنها علنا، مهما كان تقديرنا بأنه لم يعد هناك مبرر لاستمرارها، إذ ارتبطت بمخاوف قادة ثورة 23 يوليو فى السنوات الأولى منها، من تأثير الجماهيرية الكاسحة لشخصية «مصطفى النحاس» على جماهيرية الثوار الجدد.
واقترح «مصطفى بهجت» أن نعرض على وزير الإعلام، بروفة طبع نهائية لثلاثة فصول من الدراسة، وكلفنى بالإشراف على إعداد هذه البروفات.
توجهت إلى أرشيف الصور لأكتشف حجم الثروة الهائلة والنادرة من الصور الفوتوغرافية التاريخية التى تمكلها «الجمهورية».. إذ كانت قد ورثت أرشيفات صور عدد من الصحف التى توقفت عن الصدور بعد ثورة 1952، إما لأن الزمن قد تجاوزها، أو لأنها دخلت فى صدام مع السلطة الجديدة فأغلقتها، كان من أبرزها صحيفة «المصرى» اليومية - أوسع الصحف الوفدية اليومية انتشاراً. ورغم أن «الجمهورية» - والصحف التى تصدر عنها - لم تكن تهتم كثيراً بصور «العهد البائد» - إلاّ أننى وجدت حماسا شديدا من «عم صالح»، وكان شيخا عجوزا جاوز الستين، ورثته «الجمهورية» عن أرشيف «المصرى»، واستطعنا بعد مجهود، أن نجمع معظم ما يضمه الأرشيف من صور «مصطفى النحاس»، أخذت منها صور الحلقات الثلاث ووضعت الباقى فى أربعة ملفات ضخمة وسلمتها لـ«عم صالح»، فأودعها أحد أدراج الأرشيف.
وخلال أيام قليلة، كانت تجربة الطبع على مكتب وزير الإعلام، وكانت بالمصادفة - تدور حول التهم الذى شاعت عنه، ومن أهمها ما قيل حول فساد الحكم فى عهد حكومات الوفد، التى شملت توزيع أراضى الدولة بأثمان بخسة على الأقارب والمحاسيب، وطرح المواد التموينية المدعمة للبيع فى السوق السوداء، والتجارة فى أذون الاستيراد، والتلاعب فى البورصة، وهى وقائع كانت حجر الزاوية فيها هى المرحومة «زينب الوكيل» حرم النحاس، التى أشيع أن نفوذها تعدى المال إلى السياسة، وأنها كانت تتدخل فى اختيار الوزراء.. حتى أنها استقبلت وزير المالية ذات يوم قائلة: أهلاً بوزير ماليتى.
وتوقعت أن تشجع هذه البداية، التى توحى بأن الهدف من الحلقات هو مواصلة حملة التشهير بتاريخ «النحاس» وزير الإعلام فيوافق على نشر الحلقات.. ولكنه - على العكس من ذلك - لم يوافق.. وحين سألت «مصطفى بهجت» عن السبب، قال وعلى وجهه ابتسامة ذات مغزى، إن الوزير قال له إن الحديث عن نفوذ السيدة زينب الوكيل قرينة مصطفى النحاس، سوف يستدعى فى أذهان القراء المقارنة بينه وبين الدور الذى كانت السيدة «جيهان السادات» - قرينة الرئيس «أنور السادات» - قد بدأت تلعبه على مسرح السياسة المصرية.. ساعتها تنبهت إلى أن الليلة تشبه البارحة وأن التاريخ المصرى يسير على قاعدة «داين تدان» وأن فساد الإدارة المصرية قانون كونى.
وبعد شهور دخلت أرشيف الصور، فلم أجد «عم صالح».. وقالوا لى إنه رحل منذ أسابيع، وفتحت الدرج الذى وضع فيه أمامى صور النحاس.. فوجدته خالياً!
وكان قد مرّ عشرون عاماً على ثورة 23 يوليو 1952، فرضت أجهزة الإعلام خلالها تعتيماً شاملاً على اسم وصورة وتاريخ «مصطفى النحاس»، إلى درجة أن الرقابة على الصحف، كانت تشطب اسمه أينما ورد فى أى مقال أو خبر، حتى لو كان فى مجال التنديد به، وهو ما كان يعنى فى تقديرى أن أى رئيس تحرير ينشر أى سلسلة من الموضوعات الصحفية عنه، سوف يضيف إلى قراء «الجمهورية» آلافا من الجيل الذى عاصر الرجل، وناضل تحت قيادته للحركة الوطنية، فضلاً على الجيل الذى كان فى طفولته، عندما تقرر شطب اسمه وصورته من التاريخ.
وكانت وجهة نظرى - التى شاركنى فيها مصطفى بهجت بدوى - هى أن الأوان قد آن لتقييم موضوعى للرجل، الذى كان أحد أقطاب ثورة 1919، والذى قاد نضال الشعب المصرى، خلال 25 عاماً - بين 1927و1952 - دفاعاً عن الاستقلال والديمقرطية.
دفعت إلى «مصطفى بهجت» بالفصول الأولى من الدراسة لكنه اعترض على اقتراحى البدء بنشر حملة دعاية لها، قائلاً إنه لابد وأن يستشير فى الأمر وزير الإعلام «د.محمد عبدالقادر حاتم»، ولأن المسألة تتعلق بسياسة إعلامية ثابتة تواصلت لسنوات، لابد من جس نبض «أصحاب الشأن» قبل مفاجأتهم بالخروج عنها علنا، مهما كان تقديرنا بأنه لم يعد هناك مبرر لاستمرارها، إذ ارتبطت بمخاوف قادة ثورة 23 يوليو فى السنوات الأولى منها، من تأثير الجماهيرية الكاسحة لشخصية «مصطفى النحاس» على جماهيرية الثوار الجدد.
واقترح «مصطفى بهجت» أن نعرض على وزير الإعلام، بروفة طبع نهائية لثلاثة فصول من الدراسة، وكلفنى بالإشراف على إعداد هذه البروفات.
توجهت إلى أرشيف الصور لأكتشف حجم الثروة الهائلة والنادرة من الصور الفوتوغرافية التاريخية التى تمكلها «الجمهورية».. إذ كانت قد ورثت أرشيفات صور عدد من الصحف التى توقفت عن الصدور بعد ثورة 1952، إما لأن الزمن قد تجاوزها، أو لأنها دخلت فى صدام مع السلطة الجديدة فأغلقتها، كان من أبرزها صحيفة «المصرى» اليومية - أوسع الصحف الوفدية اليومية انتشاراً. ورغم أن «الجمهورية» - والصحف التى تصدر عنها - لم تكن تهتم كثيراً بصور «العهد البائد» - إلاّ أننى وجدت حماسا شديدا من «عم صالح»، وكان شيخا عجوزا جاوز الستين، ورثته «الجمهورية» عن أرشيف «المصرى»، واستطعنا بعد مجهود، أن نجمع معظم ما يضمه الأرشيف من صور «مصطفى النحاس»، أخذت منها صور الحلقات الثلاث ووضعت الباقى فى أربعة ملفات ضخمة وسلمتها لـ«عم صالح»، فأودعها أحد أدراج الأرشيف.
وخلال أيام قليلة، كانت تجربة الطبع على مكتب وزير الإعلام، وكانت بالمصادفة - تدور حول التهم الذى شاعت عنه، ومن أهمها ما قيل حول فساد الحكم فى عهد حكومات الوفد، التى شملت توزيع أراضى الدولة بأثمان بخسة على الأقارب والمحاسيب، وطرح المواد التموينية المدعمة للبيع فى السوق السوداء، والتجارة فى أذون الاستيراد، والتلاعب فى البورصة، وهى وقائع كانت حجر الزاوية فيها هى المرحومة «زينب الوكيل» حرم النحاس، التى أشيع أن نفوذها تعدى المال إلى السياسة، وأنها كانت تتدخل فى اختيار الوزراء.. حتى أنها استقبلت وزير المالية ذات يوم قائلة: أهلاً بوزير ماليتى.
وتوقعت أن تشجع هذه البداية، التى توحى بأن الهدف من الحلقات هو مواصلة حملة التشهير بتاريخ «النحاس» وزير الإعلام فيوافق على نشر الحلقات.. ولكنه - على العكس من ذلك - لم يوافق.. وحين سألت «مصطفى بهجت» عن السبب، قال وعلى وجهه ابتسامة ذات مغزى، إن الوزير قال له إن الحديث عن نفوذ السيدة زينب الوكيل قرينة مصطفى النحاس، سوف يستدعى فى أذهان القراء المقارنة بينه وبين الدور الذى كانت السيدة «جيهان السادات» - قرينة الرئيس «أنور السادات» - قد بدأت تلعبه على مسرح السياسة المصرية.. ساعتها تنبهت إلى أن الليلة تشبه البارحة وأن التاريخ المصرى يسير على قاعدة «داين تدان» وأن فساد الإدارة المصرية قانون كونى.
وبعد شهور دخلت أرشيف الصور، فلم أجد «عم صالح».. وقالوا لى إنه رحل منذ أسابيع، وفتحت الدرج الذى وضع فيه أمامى صور النحاس.. فوجدته خالياً!
رابط المقال: الليلة.. والبارحة
المصدر: جورنال أون لاين