ابراهيم عيسي |
إبراهيم عيسى يكتب في الدستور : نفهم وبعدين نقطع
طالما ربنا أمرنا بأن نقطع يد السارق، يبقى نقطع، لكن على الأقل نعرف
أنه لسنا نحن المسؤولين عن القطع حتى نفعلها بأنفسنا كما يفعل الشارع
المصرى هذه الأيام فى أكثر من حادثة إجرامية تسمح لنا باتهام المجتمع
بالتوحش وبالجهل معا!
لو أن هؤلاء المتحمسين الذين حاصروا بالمئات وربما الآلاف، بيت بلطجى أو
أمسكوا بحرامى وقطعوا يده كانوا قد قرؤوا كتابا واحدا فى الشريعة لأدركوا
أنهم وقعوا تحت طائلة عقوبة الشريعة نفسها، ومن المفروض أن تُقطع يد كل
واحد فيها «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ
وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُون» (المائدة 45).
هؤلاء الذين يتخيلون توهما أنهم ينفذون شريعة الله يرتكبون جريمة كاملة
تعاقب عليها هذه الشريعة بنفس جنس العمل، لكن الجهل يعمى ويُصِمّ.
أنا واثق أن كثيرا جدا من الطيبين الذين التفوا حول قاطعى أيدى
البلطجية، مهللين فرحين مباركين فى لحظة هوس وحشية ورغبة فى الانتقام من
الخوف الذى زرعه هؤلاء البلطجية واللصوص فى قلوب الناس فى الحى أو البلد،
لا يعرفون عن الشريعة شيئا، وما يحشو عقولهم هو كلام سمعوه صدفة من هنا أو
هناك، لكن ما الذى يجعل الناس يلجؤون إلى العنف والوحشية المتمسحة بالدين
فى مواجهة البلطجية والحرامية؟
- فشل الجهاز الأمنى وعجز وزارة الداخلية عن الإمساك بزمام الأمور
وإعادة الانضباط إلى الشارع المصرى، خصوصا أن الشرطة لا تعطى أى أمل للناس
فى قدرتها على العودة، بل وتدير ظهرها لشكاوى الأهالى من الحرامية
والبلطجية، ويجد الجهاز الأمنى حججا كثيرة فارغة لعجزه، مما يستفز الناس
للحركة بعد يأسهم من شلل الأمن.
- هذا الحديث اليومى المتصاعد من حناجر وميكروفونات دعاة وخطباء عن
تطبيق الشريعة منح شرعنة للعنف، أضفى على تصرفات همجية صفة التدين وأوهم
مرتكبيها أنهم منفذو شرع الله.
- الروح العدوانى الذى يسود جوانب كثيرة من حياتنا بعد ثورة 25 يناير،
ربما بسبب فهم مغلوط للحرية أو غياب ثقافة المسؤولية، أو تعبيرا عن قهر
وقمع وإهانة كرامتهم سنين طويلة، فيأتى العدوان والتوحش انتقاما فى غير
محله لغير مستحقيه فى غير وقته.
لكن اللافت هنا أن ما ارتكبه الأهالى من قطع يد يخالف الشريعة ليس فقط
لأنهم نفذوه بأنفسهم وهذا ما يضعهم تحت طائلة العقوبة نفسها، بل لأنهم كذلك
خلطوا بين حد الحرابة وحد السرقة، فالرجل الذى سرق توك توك من الطريق
العام لا ينطبق عليه حد قطع اليد مثلا، ونفهم من الفقيه الراحل السيد سابق
فى كتابه الأهم «فقه السنة» أن السرقة نوعان، الأول ما يوجب التعزير (وهى
العقوبة التى يفرضها الحاكم، أى عقوبة مدنية طبقا لقانون وضعى)، والثانى ما
يوجب الحد، ثم يورد الحديث النبوى الذى رواه أصحاب السنن والبيهقى وصححه
الترمذى «ليس على خائن (نصاب مثلا) ولا منتهب (من يأخذ المال غصبا وعلنا
وبالقوة) ولا مختلس (من يخطف المال علنا ويهرب به) قَطع»، ثم من شروط تطبيق
الحد على السارق أن يكون المال المسروق فى حرز (لو سرق أحدهم جاموسة من
الغيط لا تُقطع يده ولو سرقها من الزريبة تُقطع ولو سرق سيارة من جراج تُقطع ولو
من الشارع فلا تُقطع)، واختلف الفقهاء فى ما لو اشترك اثنان فى نقب دار
فدخل أحدهما فأخذ المتاع وناوله الآخر وهو خارج الحرز، فقال مالك والشافعى
وأحمد «القطع على اللص فى الداخل ولا قطع للص فى الخارج»، وقال أبو حنيفة
«لا يُقطع منهما أحد، بل إن السرقة من بيت المال (وهو فى حالتنا العصرية
المال العام أو مال الدولة) لا توجب قطع يد السارق»، فضلا عن القاعدة الأهم
أن لا يكون السارق محروما أو جائعا أو محتاجا أو مجبرا، فضلا عن أنه لا
قطع يد زوج سرق من زوجته أو أب من ابنه أو العكس، حتى الشغالة اللى فى بيتك
ومتخيل أنك لو هددتها بقطع يدها لن تسرقك، فالشرع لا يقطع يدها!
وهكذا عشرات المسائل المحيطة بقطع اليد تجعل العلماء والقضاة يختلفون
ويتحيرون فى التطبيق، بينما الإخوة فى بولاق أو كفر الشيخ فاكرينها مسألة
سهلة أن يقولوا «هذا حرامى هيا بنا نقطع يده»! بينما لو قرؤوا أو فهموا شرع
الله لأدركوا أن هناك إجماعا من الفقهاء والعلماء على أنه يحق للقاضى أن
يلقّن السارق ما يُسقِط الحد، عن عمر رضى الله عنه أنه أتى برجل سرق فسأله
أسرقت؟ ثم أضاف عمر: قل لا، فقال لا، فتركه.
عمر هو الذى أمر الحرامى أن ينكر وينفى أنه سرق وتركه دون أن يمسك فيه
فرحا بقطع يده تطبيقا لشرع الله، بل إن شرع الله هو الذى طلب من عمر أن
يملى على الرجل (قل لا).
رابط المقال: إبراهيم عيسى يكتب: نفهم وبعدين نقطع