بلال فضل يكتب في التحرير: حديث الزبالة!
بلال فضل |
لم يكن أردوغان قد وصل بعد إلى القاعة ليلقى خطابه الملىء بقنابل لم
تتوقف وسائل الإعلام عندها كثيرا، لكننا كنا منشغلين عن انتظاره بالحديث
عن قضايا مصيرية تعانى منها مصر، أخطرها بالطبع مشكلة الزبالة التى تسعى
وسائل الإعلام لتخفيف حدتها بإطلاق لفظ القمامة عليها، وهو تزوير إعلامى
فادح، فما نعانى منه فى شوارعنا ليس قمامة أبدا، القمامة لفظ يمكن أن
تطلقه مثلا على مجموعة من المخلفات الورقية والبلاستيكية التى تتناثر فى
جنبات حديقة أوروبية عقب ازدحام «ويك إند»، لكن ما نعيشه فى شوارعنا هو
زبالة خُلقت كلمة الزبالة من أجلها، وهو وضع ليس مرتبطا فقط بأخلاقيات
الزحام أو بارتباك الإدارة الحكومية، بل يرتبط بقلب التفكير الحكومى فى
عهد مبارك الذى كان يحتقر المواطن المصرى العادى ويتعامل معه تعاملا دَرَج
المواطن نفسه على وصفه بأنه تعامل زبالة، ولم يأت هذا الربط اعتباطا على
الإطلاق.
كنت أحكى لرفاق المائدة عن تجربة قررت أن أخوضها فى أثناء إقامة قصيرة
فى مدينة بورصة التركية رابع المدن التركية أهمية وعددا بعد إسطنبول
وأنقرة وإزمير، ومع ذلك فهى لا تقل عن أيهن ولا عن غيرهن نظافة وجمالا،
بُنيت أغلب أحياء بورصة على سفوح جبل أولداغ، مما يجعل التنقل فى شوارعها
رياضة عسيرة على المشاة ومهمة شاقة لقائدى السيارات، كان يمكن أن يتم
اتخاذ ذلك ذريعة لمسؤولى المحافظة للتهرب من مسؤولية جمع المخلفات التى
يتركها السكان، ومع ذلك لن تجد فى المدينة وما حولها كوم زبالة واحدا،
قررت أن أنفس عن غيظى من ذلك الوضع قررت أن أبحث عن وجود ثغرة فيه، فمشيت
ساعة كاملة خلف عربة ضخمة تجمع القمامة فى أحد الأحياء الشعبية، وهو حى
شعبى بالمفهوم التركى وليس بمفهومنا، فمع أنه حى يسكنه مواطنون بسطاء إلا
أنه يشبه فى نظافته ورُقيه كثيرا من شوارع مصر الجديدة أيام عزها، على رأس
كل شارع هناك صندوق ضخم يقوم الأهالى بتجميع مخلفاتهم فيه يوميا لكى يسهل
على العربة التقاطه بدلا من صعودها إلى شوارع صعبة أو ضيقة، لمدة ساعة لم
تغادر العربة صندوقا إلا وجمعت ما فيه، وعندما قام العمال ببعثرة محتويات
أحد الصناديق فى الأرض فوجئت بعد قليل برجل ينزل من سيارة صغيرة ينهال
عليهم بما فهمته تقريعا وتوبيخا، ويجبرهم على العودة إلى المكان الذى لم
يحسنوا تنظيفه، فهمت بعدها أن عمليات جمع القمامة تصحبها عمليات تفتيش
يومية للرقابة على العاملين، بالإضافة إلى وجود خط ساخن للإبلاغ عن أى
شكاوى من المواطنين الذين لا يتأخرون بدورهم فى وضع قمامتهم فى المكان
المحدد، بعد أن وفرت لهم المحافظة الآلية الناجعة، ولم تهتم فقط بسرقتهم
بربط الزبالة بفاتورة الكهرباء.
لم يحدث ذلك لأن الأتراك على رأسهم ريشة الحضارة ونحن لا، لو عدت إلى
قراءة الأدب التركى الساخر المترجم إلى العربية بكثافة، لوجدت فى قصص عزيز
نيسين ومظفر إزغو التى كتبت فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى
سخرية مريرة من أحوال المدن القذرة المكتظة بالقمامة والتى يتبول الناس فى
شوارعها بكثافة، ما حدث ببساطة -لكى لا نكتفى بممارسة جلد ذواتنا- هو أن
الديمقراطية هناك تجذرت ممارستها أولا فى البلديات والمحليات التى أصبح
أعضاؤها المنتخبون نجوما فى مجال خدمة المواطنين، تاركين لأعضاء البرلمان
مهام التشريع والرقابة والمحاسبة، يكفى أن تعرف أن أردوغان وكل رموز حزبه
صعدوا إلى الحياة السياسية من خلال ممارسة العمل البلدى وخدمة الناس فى
المحافظات والمدن والقرى، لم يهبطوا على الحياة التركية بالباراشوت مزودين
بمصطلحات فخيمة وكلام يُنسى بعضه بعضا، لم يبرع أردوغان فى حكم تركيا إلا
لأنه أجاد من قبلها حكم إسطنبول التى كان رئيسا ناجحا لبلديتها، ومن
خلالها كَوّن رصيده لدى الناس الذين يتناقلون عنه قصصا كالأساطير بدءا من
تعامله مع مشكلات القمامة والمجارى ووصولا إلى تعامله الحضارى مع العاهرات
المرخص لهن بالعمل فى شوارع حى بى أوغلو، وكيف نجح فى إقناع كثيرات منهن
بترك العمل من خلال تقديم حوافز لهن ليعملن فى مهن أخرى محترمة، لا أدرى
ما مدى صدقية هذه الحكايات لأننى لم أجد للأسف باللغة العربية مصدرا موثقا
يتحدث عن تجربة أردوغان وحزبه فى العمل البلدى، وأتمنى أن يقوم أحد
المتخصصين بعمل بحث موسع عن هذه التجربة لكى تستفيد منها القيادات الشابة
التى ترغب فى أن يكون لدينا عمل حزبى مختلف وحقيقى يليق بثورة يناير
العظيمة، فلا نعيد إنتاج أحزاب الثلاث ورقات التى ترعرع قادتها على حجر
ضباط أمن الدولة.
ونحن فى انتظار أردوغان سأل أستاذنا فهمى هويدى نائب محافظ القاهرة
الباحث المرموق سمير مرقص عن اسم المسؤول عن ملف الزبالة فى حى مصر
الجديدة الذى انتشرت فيه الزبالة بشكل كبير، ولأن الشىء بالشىء يذكر، دعوت
الأستاذين فهمى وسمير ورفاق المائدة لزيارة أكبر معرض للزبالة المفتوحة
يوجد فى شارعنا القريب من مجلس الوزراء والذى لا يمر عليه الدكتور عصام
شرف بالتأكيد، ثم حكيت لهم عن زيارة قمت بها إلى الزقازيق بعد غياب شهر،
وكنت آمل أن أرى لمسات ثورية على شوارع المدينة قام بها صديقنا المحافظ
الدكتور عزازى على عزازى الذى جاء من قلب الثورة، فوجدت أن التغيير امتد
بالفعل إلى أكوام الزبالة التى صارت أطول ربما تماشيا مع طول المحافظ،
وأعتقد أنها لو استمرت بهذا الشكل ستصبح خلال أشهر بطول مبنى المحافظة، لم
يكن عندى شك أن الدكتور عزازى يبذل أقصى جهده لأداء واجبه، وهو ما تأكد
عندما قال الأستاذ سمير إن جميع المحافظين بل والحكومة نفسها مظلومة فى
هذا الملف، لأن العقود التى تم توقيعها فى عصر مبارك مع شركات جمع الزبالة
هى عقود إذعان أقرب ما تكون إلى عقد هيئة قناة السويس الذى وضعه
الاحتلال، وأن محاولات قانونية مكثفة يتم بذلها للتخلص من هذه العقود دون
تكبيد ميزانية الدولة خسائر فادحة فى دفع التعويضات، وهو ما يثبت كيف كان
نظام مبارك قادرا على حماية الفساد بالقانون الذى إن أسقطته الثورة فإنها
ستكون مجبرة على تحمل تبعاته أمام المؤسسات والمحاكم الدولية، قلت للأستاذ
سمير: ربنا يطمنك يا شيخ، لم يعد لدينا الآن أمل إلا أن ننتظر خطابا
لعصام شرف يقول فيه «ديليسيبس ديليسيبس» لكى ننقض على شركات جمع الزبالة
ونقوم بتأميمها ونجمع نحن زبالتنا بأيدينا. ضحكنا وكانت ضحكاتنا مجروحة
لأننا كنا نتحدث عن فشلنا فى جمع الزبالة، بينما ننتظر اللقاء برئيس وزراء
دولة حققت فى الربع السنوى الأخير أعلى نسبة نمو فى العالم متساوية فى
ذلك مع الصين، وقد كانت قبل عشر سنوات فقط تشكو مثلنا من فشلها فى جمع
الزبالة، فاللهم لا اعتراض، اللهم ديمقراطية.
وإلى الغد بإذن الله.
رابط المقال: حديث الزبالة!
المصدر: جورنال أون لاين